أُطبِقت أبوابُ الصَمتِ بَعدَ أن دَخلَ شابٌ في مُقتَبلِ عُمره بُغتةً على غَير إذن الى غُرفةِ سِلفيوس، طائِشَ اللُب، قاتِم النَفس، حيّثُ كانَت أنفاسُهُ المُتسارِعةُ تَسبِقُ إذنهُ بالدُخول، وبعدَ لَحظَةٍ من الذُهول بَدأ يتَّضِح من وَراء الغُبار المُتناثِر ملامحُ صَديقٍ قديمٍ وعزيزٍ عَليه:
_بعد كُل تلكَ المُدة التي طالت بيّننا أتيتَ أخيراً، بَيّد أنَّك لاتأتي إلا بعد حربٍ طاحِنة، إلا بعد نكبةٍ تشتت بها أقطابُك..
_أهٍ لو تعلمُ ياسلفيوس، أنتَ الصديقُ الذي لايروقُني التحدثُ إلا معه، إن للإنسانِ حاجاتٌ لايَكفيها الكلام، لكن لامناصَ من الحديثِ مع شخصٍ آخر في خضمِ هذه الآفاتِ التي تُكبلُ الإنسانَ وتلعنَه، وأنتَ ياصديقي رُبَّ شخصٍ ألِفتهُ نفسي وفَهما.
_شايٌ؟.
_شاي..
وَلَجَ الصَديقُ من على عَتبةِ الباب حائِراً، زاخِماً بكمٍّ هائِلٍ من الأسئِلة، فإغتَنمَ كُرسيّاً بجانبِ نافِذةٍ كانت تُطلُ على جَرفٍ شاهقٍ مُقفر، فبَدأت كَلماتهُ تَنسابُ واحدةً بعد أُخرى مع انسيابِ الجَرف، واختَرَقَ الصَمتَ مُتباطِئاً :
...في هذا القاع، وبعدَ أن أخذَ منحاً عجيباً بتخيُّلاتي، سارَ على منهجٍ لايتصوَّرهُ المرءُ أو يُدركُه، أظلمَت نفسي بضبابٍ داكنِ اللون، رأيتُ بيّن هذا السُخامُ الأسودِ أشياءً تبعثُ القَيّء، وتثيرُ الهلع، فدُهشتُ من منظره، وأضناني حُنقي الذي بلغَ شِفاهي فارتجفَت، فأتيتُ مُسرعاً إليّك.
_وكم كُنت أتسائلُ ياصديقي منذُ بُرهةٍ عن سببِ لونِ وجهكَ المُنتقع، وأنفاسُك اللاهِثة..
_كنتُ قد دخلتُ في عالمٍ مليءٍ بالفوضى، لايسكنهُ البشر، يقطُنُهُ كائناتٌ موحشة، ملامِحها تشبهُ الإنسانَ عامةً لكن مايُميزُها أنَّها تملِكُ مِن الضَراوةِ مايجعلُ جِلدها أثخنَ عشرَ مرات. كائناتٍ تملكُ همجيةً مُفرطة لايُمكن مُساومتُهم على شيء، تراهُم يجلِدون بعضهم بعضاً وتعلوا أفواهَهُم إبتسامةً فيها من اللِذة ما يدعو للضَحك، وكأنَهم يلعَبون ويمرحون، ويستمرون بالضرب إلى أن يسبَحوا بدماءِ بَعضِهم بعضَ، وصَرَخاتُ المَجلودينَ تصدحُ بيّن الأزِقةِ والغابات فتطير الغُربانُ خوفاً وجزعاً، ورَفيفُ خَفقِ السوطِ يَدوي ويَدوي في الأرجاء، وكأنهُ يصطَدمُ في مسمعي، رعداتُ جَسدي لاتُعدُ ولاتُحصى، وقد شاقَ عليَّ الشَهيقُ كثيراً. سلاسلٌ لاتُلوى عن الصَليل، وأشباحٌ تَحومُ حَوّل فرائِسِها بنهمٍ وتُحاصِرها، ألسِنةُ لهبٍ مُضرمة أيّنما وقعَ بصرُك، وبيّنما أتفرّسُ المشهدَ وتفاصيلهُ بذعرٍ شديدٍ وبملامحٍ مشدوهةٍ، فجأةً، تُحوّل هذه الكائناتُ كُلها أنظارها عليّ فبدأت تياراتٌ باردةٌ وساخنةٌ تصبُّ على جسَدي الهزيلِ واحدةً بعد أُخرى، فإنتفضتُ كسجادةٍ رثّة، جَمعتُ غُبارَ نَفسي المُعلَّقِ في الهواء ووجدتَني في غُرفتي وعلى سَريري، ثُم شَعرتُ بعدها بقشعريرةٍ وكأن جلدي بدأ بالانسِلاخ، فأيقنتُ حينها أنَّ أرواحُنا قد اكتَفت، وأننا أسرَفنا بِها أيَّما إسراف، قد حارَبت وأنتُزِعَت مِن قَعرِ سلامِها بعُنف، فماذنبُها بإخفاقاتِنا؟، وماذنبُها حتى نُقرعُها بإتِهاماتٍ باطِلة؟، نُطفِؤها ونُخفيها، ونُجرِّعُها البؤس بكِلتا أيدينا، فلا تظلُ هي ولا نظلُ نحنُ..
_صديقي، كيّفَ نُحققُ السلامَ لأرواحِنا وهذا العالمُ ملىءٌ بالشُرور؟، كيّف نُهديها لحظاتِ الصِبا والكُهل أكلَ من أطرافِنا أجزاءً؟؟، ما فقدناهُ لانُعطيه، وما ليّسَ لنا، حِكرٌ عليّنا، نحنُ المُهمشون، المُغيَّبونَ عن أحلامِهم، المُكسرةِ أعيُّنهم والضالّون.. بُسَطاء، نَعيشُ في عُمقِ خَيالِنا المَنشود، القابعِ في جَوفِنا والمُتوَسدِ بَيّن جُدرانِ هذه الغُرفةِ المُظلِمة، نُجهدُ من فَرطِ الخَيّبةِ فيُسدَلُ سِتارُ المَسرحِ الذي فاضَ بضِحكاتِنا، حَيّثُ نَبقى شارةَ النِهايةِ لأحلامِنا التي عَصَفَت بِها الأقدار. أصواتُ العِواءِ التي تَعلوا خارجاً لاتَتناسَبُ مع صَفائِنا، ثُم إنَّ فَرط الخَيّبةِ وتَعطُشِنا المُلح للوصولِ يَجعلُنا فَريسةً لغَريزةِ الإنتِقام، ونَتيجةً لِكَونِنا لا شيّء، فلا نَجدُ ماننتَقِمُ مِنهُ آخرَ المَطاف سِوى أرواحُنا المُشبّعة بالويلات وهذا مايُفسرُ اللِذة اللامُتَناهية التي نَشعُر بِها في أغوارِ أنفُسنا عِند ساعاتِ الليلِ الكَئيبة. هذه حَربٌ مَعنا نَحن، مع ذَواتِنا البَريئة، مع شَخصِنا الضَعيف. يالنا من أوغادٍ مَسعورين، لاننفكُ عَن الأذى لِمن هُم أضعفُ منا شَئناً وأدنى مَنزِلة. إذاً عليّنا التَسليمُ بأنَّ مَراحِلَ تكوّنِنا كانَت مَبنيةً على القَتلِ والسَفكِ والجَلد، على احتِلالِ المَرتبةِ العُليا للشر.. أُنظر حَوّلكَ بتمعُّنٍ ياصَديقي العَزيز، أيُّ إنسانٍ ذا شأنٍ لم يقتِل ويسفِك ويجلِد؟؟، أيُّ إنسانٍ ذا هَيّبةٍ لم يُحطم عِظامَ أحد، ولم يَنتَهك آمال أحد؟؟، هذه سياسةُ البَقاء، هذه شَريعةُ الوصول. علّني ياصاحِبي تَشعّبتُ كَثيراً بالحَديث، لكن هذه حَقيقةٌ لايُمكنُ دَحضُها أبداً. لنَعودَ لِصُلبِ مَوضوعِنا المُكسَّر جَناحيه، ولنتَفق أولاً أنَّ الفَراغُ الذي يُصنع بأيدينا يشُقُ عَليّنا حُروباً لاتنضُب، لاتستَسلِم له، لاتَدع لهُ حَيّزاً ليتَغنّى بِهِ في مَضجَعك، اُترُك سَيّلَ أفكاركَ الجارِفة واهرُب بَعيداً الى ماوَراءَ حُدودِ هذا العالَم، الى ماوَراءَ الواقِع، إلى النَوم.
بقلم الكاتب: محمد الحلبي| سوريا
المدير العام:
صفاء عويسي.
تعليقات
إرسال تعليق