القائمة الرئيسية

الصفحات

عين الجنان | عامر بن الحبيب خضري | مجلة صفاء الروح.

عين الجنان

 

عامر بن الحبيب خضري

تجري الأحداثُ في قريةٍ تُدعى عين الجنان، شاءت الأقدار أن تحطّ ظلالها وسط الجبال تحديدًا وراء المستحيل، قرب اللّا معنى، عرفت بأنّها سابقة للزّمن، متمرّدة على الوجود، مدركةٌ لمصيرِها، راضية برغيف ِ النّسيان، تُباعُ لها الأحلامُ النّاقصة ويأكل الجاهلون من لحمها كلّما جاعت عقولهم، أرضًا يخيّم عليها مصير مجهول يتوه فيه الحكيم وتنتحر فيه الحقائق والنّظريات، قيل أنّ هذا المكان لم يكن موجودًا في الكرة الأرضيّةِ من قبل، إنّما سقطَ من السماء في أحد الأيّام ربّما هي أيّام الغفلة، لذلك تكالبت عليه النّعوت وكثرتْ فيه الأقاويل، منهم من يعتقد أنّ جميع سكّانه مخلوقات غريبة تمشي على أربع وتأكل على غير عادة البشر، مكانٌ قيل أنّه الحلقة المفرَغة من الحياة،

ربّما تكونُ الأشياء الّتي تراها بسيطة في مدينتك لها ألف معنى هنا، و ربّما ما تراه محرّمًا و عملًا إجراميًّا هو أساس الحياة وبريقُ الأمل في عين الجنان وربّما تعتقدُ أنّك فيلسوف ذو منصب والحقيقة أنّك خلقتَ من خربشةِ قلم، جعلت ظهرك معوجًّا من كثرة الانحناء وقيمتُك مزيّفة.

لا أطيلُ عليكم، كلّ الحكاية أنّ أحمد شابٌّ عاطلٌ عن العمل، لم يجد قوتَ صغاره فقرّر السّفر بطريقةٍ غيرَ شرعيّة إلى فرنسا، كان كلّ همّه أن ينتهي الخلاف مع زوجته في أسرع وقت ممكن، تلك الحمامة البريئة، ذات القلب الطيّب

يريدُها أن توافقَ على سفره، ليحقّق كلّ أحلامه، أحلامًا لم تكن موجودة قبل الزّواج، ربّما سيجد هناك على حسب ظنّه جنّة الخُلدِ وريحانةُ الحياة أو أشياء أخرى نجهلُها.

كان مستعدًّا على تحمّل فراق حبيبته وأبنائه، إصرارًا يبعث على الحيرة والشّكّ.

هل هذا كلّه هروبٌ من المسؤوليّة أو مطاردة لحلم مجهول؟!

هل يهرب الإنسانُ من مكانٍ وُلِد فيه وترعرعَ، رغم بشاعة الحياة فيه وغياب أبسط متطلّبات الحياة.

حمل حقيبتَه، اقترب من زوجتِه ثمّ أصرّ لها بكلمات خفيفة، ربّما قال لها اعتني بنفسك أو اعترف  بعشقه لها، مطمئنًا إيّاها بالعودة.

وكالعادة خبّأت تلك الفتاة الجّميلة دموعها في عينيها، واندلعت غصّة الفراق وحيرة النّفس أحيانًا تمنّيها وأحيانا تخيفها من الضّياع.

هكذا بعض الرّجال يقتلون أرواح النّساء بكلّ برودة دم ثمّ يطالبونَهم بقصائد العشق والغرام.

مرّت سنة وأحمد في غربته، وزوجتُه في غربة أعظم، بدء يقلّ الاهتمامُ يومًا بعد يوم وأصاب ذلك اللّسانُ شللًا عن نطق بعض الكلمات التي تعيش المرأة من أجلها،  بل تحارب إذا تطلّب الأمر.

"اعلم أنّك عدوٌّ للمرأةِ إذا لم تتودّدْ لها بطيبِ الكلام"

كيف يتجرّدُ الإنسان من مشاعره، ويتنكّر للماضي الجميل.

حقّا إنّها قصّة حبٍّ تموت وتنتحر كلّما تقدّم بها الزّمن.

عائلةٌ كانت تعيشُ في هدوء يجمعهم كوخ و تفرّقهم قطرات المطر، عيبُها الوحيد أنّها كانت منقوصة من رغد الحياة الآن تعيش آخر لحظات حياتها.

كأنّ الحرب قد دمّرت هذا المكان و أرسلته إلى زمنٍ آخر ربّما مئة ألف أو يزيدون.

رحل السّند ولم تبق إلا فتون تلك الفتاة الجميلة ذات العيون العسليّة، تشمّر على ساعدها، تكافحُ من أجل أبنائِها، تثورُ كالبركان كلّما غلبها الشّوق واستولت الذّكريات على مخيّلتها، آه لو رأيتَها بعد منتصف اللّيل وهي تتخبّط في بركة من اللّوم وصيحة من وهم.

تنادي بشفتين مثقلتين:

أين أنت يا أحمد، لماذا تركتني وأنا العاجزة بطبعي على أن أكون رجل البيت ومضمّدة الجراح، إنّ ابنك يناديك كل يوم يا أبي، وحين يسألني أين أنت، لا أجدُ ما أقولَه وأُسرِعُ في تغيير الموضوع، مرّة بلعبةٍ في الهاتف الخلويّ ومرّة بحكاية من صنيع عقلي المشتّت، حكاية كاذبة تشبه قصّتي معك.

عد إلينا، أنا أرجوك يا حبيبي فلم أعد أتحمّل هذه الأيّام ولا تقلّباتها، أتعلم يا زوجي أنّ إحدى صديقاتي  الّتي طالما وقفت معها قد نعتتني بما أنت سببه، أيهونُ عليك كلّ هذا، وأنا أرى نفسي غريبة بين الناس، أمشي بخطوات متصارعة، أكاد أقع على الأرض، أعطيني روحي وعقلي أو أعدني إلى بيت أبي عزباء، وبكرًا إذا تطلّب الأمر.

يا لها من  مسكينة لم تكن تُدرِك أن زوجها قد وُلِدَ من جديد، وصار لا يؤمن بالمشاعر ولا باستقرار الأسرة،

غربةٌ جعلت منه وحشًا على هيئة إنسانٍ، كيف لا وآخر مولود له وُلدَ وهو في فرنسا، لم يسمع صياح ابنه، ولم يقبّله تلك القُبلة الّتي لا تمحى من ذاكرة كلّ أبّ.

قرّرت فتون طلبَ الطّلاقِ بعدٕ طولِ غيابٍ وفشل كل محاولات الإفاقة لعقلِ زوجِها وضميره الميّت، ولكنّه رفضَ الطّلاق ورفض العودة بحجّة أنه يسعى للحصول على أوراق الإقامة هناك، لم يكن يدرك أنّه خسِرَ زوجتَه وأولادَه، وحرمَهم من أبسط حقوقهم.

روحك معلّقة يا فتون، وجسدك منهار، لا أنت متزوّجة ولا أنت مطلّقة ولا أنت عزباء، زوجُك هناك يطارد أمل العودة مرفوعَ الهامة،  كي يعيش حياةً طبيعيّةً أو ربّما يأتي يوم يشتري فيه لعبة العيد لصغاره و كبشٍ جميل في عيد الأضحى  مثل الجميع وأنت هنا تعانين الويلات في مكان اسمه عينُ الجنان .

مرّت السّنواتُ و الزّوجةُ على حالِها، تطلُب الفراق بأدب دون تعسّف على القلب المخلص، لكنّ أحمد مازال يرفضُ هذه الفكرة و يسعى إلى الحصول على أوراقِ الإقامة، و لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، لقد انتحرت تلك المسكينة بعدما كتبتْ رسالةً لا أعلمُ إن كان فحواها لومٌ و عتاب أو هذيان نفسٍ تائهة.

لقد كتبت:

حين تكون الحقيقة أوّل ضحايا الرّحيل، تندلعُ خلفَنا حربُ المواجع، تمشي على استحياءٍ، تراقبُ جثّتنا بعينين دامعتَين وقلبٍ منكسر.

بين رمشةِ عينٍ وأخرى تتحوّل الأحلامُ البريئة إلى مجرّد حكاية فارغة، وتهجر الأحرف و الكلمات تلك القصص والرّوايات ويستوطنُ الخراب تلك البيوت وجدرانها،

عليك أن تتّفق معي على أنّنا في أمسّ الحاجة إلى التخلّصِ من بعض الغباء أحيانًا، فحين يثور الموتُ على حياة العابرين معناه أنّ كلّ إنسانٍ يحملُ قدرَه في حقيبته وأنّ الرّحلة الحقيقيّة تبدأ من اللّا شيء إلى كلّ شيء ، ومن الخيال إلى عالم الإحساس والتذوّق الحقيقيّ، ستفتقدُ أحبابَك وأهلَك، ستتمنّى وجه أمّك الباسم، وبشاشة من تحبّ وأصواتُ أبنائِك وهي تناديك كأنّها موسيقى رائعة ولكن كلّ ذلك أصبح في عالمٍ بعيدٍ عنك لم يعد لك إلّا الضّياع والتّشتّت ولا نجاة لك إلّا بإخلاصِكَ.

ألم أقلْ لك أنّ الحقيقة أولى ضحايا الرّحيل و أنا أقول لكم أنّي صرتُ أجهلُ على من يقع  ذنب  هذه العائلة،

هنا تبدأ أكذوبةُ المجتمعِ و رعاية اليتيمِ


هكذا يجتازُ كلّ مظلومٍ منّا زوابعَ الألمِ القديم المتجدّد و صياحُ الظّالمين المُفجع فتعودُ الذّكرياتُ و يقوى عنفوانُها و تبكي الحرّة على كلماتٍ جَرحت أُنثاها و أمومَتها و حيائُها، نزلتْ الدّموعُ و شهقَ القلبُ و انفتحَ الجرحُ أكثر و أكثر وخيّمَ الحزنُ و حطّ رحالَه، أمواتٌ بين الأحياءِ ما دفنوا و ما صرخَ لفقدِهم كرم ثمّ نتنفّسُ وعدًا آخرَ، نتنفّسُ حلمًا جديدًا أو أكذوبةً مارقة متجبّرة.

أيّها العدوّ الّذي يسكنُنا، أيّتها الأماني الّتي تعذّبُنا

إنّنا لا نريدُ الموتَ، لا نريد الموت و لكنّ الأيّامَ تمضي بنا  كما شاءتْ كلعبةِ شطرنجٍ، أحيانًا تعودُ بنا إلى زمنٍ كان جميلًا بكلّ تفاصيلِه و تارةً إلى هذا الواقع الّذي لم نعدٍ نفهمْ من حقائقِه شيئًا.

لقد  صرنا جيلًا آخرَ، جيلًا غريبًا، عبئًا على هذا الوجود

الأمواتُ يعذّبونَ أنفسَهم بالصّبر نهارًا و بالألمِ ليلًا

و لكنّنا سنظلّ القوّة الّتي تخيفُ و الهاجسُ الّذي يذكّرهم بالموت و القبر و الحساب، هناك لن نموتَ أحياءً ولن نتعذّب أمواتًا، هناك سنتلذّذُ بعذابِهم و سحقكم، ما ذنبُ عينٍ إن لم تكنْ لهم أعين، و ما ذنبُها و هي غارقةٌ في مستنقعِ الإهمالِ ، رحلت فتون، تاركةً خلفَها صرخاتٌ تدوي أْن أنقذوا أحمد و أعيدوه،

 صالحوه مع نفسِه و محلّ سكناه، أخبروه أنّ عين جميلة في أعين متساكينيها و لا حاجةَ لنا  برحمةٍ من عند البشر.

بقلم الكاتب: عامر بن الحبيب خضري/ تونس.

المدير العام:

صفاء عويسي.

تحرير:

رؤى عماد.

تعليقات